فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (31- 34):

قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما قدم درء المفاسد الذي هو من باب التخلي، أتبعه جلب المصالح الذي هو من طراز التحلي فقال: {ومن يقنت} أي يخلص الطاعة، وتقدم توجيه قراءة يعقوب بالفوقانية على ما حكاه البغوي والأهوازي في الشواذ عن ابن مسلم {منكن لله} الذي هو أهل لئلا يلتفت إلى غيره لأنه لا أعظم منه بإدامة الطاعة فلا يخرج عن مراقبته أصلًا {ورسوله} فلا تغاضبه ولا تطلب منه شيئًا، ولا تختار عيشًا غير عيشه، فإنه يجب على كل أحد تصفية فكره، وتهدئه باله وسره، ليتمكن غاية التمكن من إنقاذ أوامرنا والقيام بما أرسلناه بسببه من رحمة العباد، بإنقاذهم مما هم فيه من الأنكاد.
ولما كان ذلك قد يفهم الاقتصار على عمل القلب قال: {وتعمل} قرأها حمزة والكسائي بالتحتانية ردًا على لفظ من حثًا لهن على منازل الرجال، وقراءة الجماعة بالفوقانية على معناها على الأصل مشيرة إلى الرفق بهن في عمل الجوارح والرضى بالمستطاع كما قال عليه أفضل الصلاة والسلام: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» وأما عمل القلب فلا رضى فيه بدون الغاية، فلذا كان {يقنت} مذكرًا لا على شذوذ {صالحًا} أي في جميع ما أمر به سبحانه أو نهى عنه {نؤتها} أي بما لنا من العظمة على قراءة الجماعة بالنون، وقراءة حمزة والكسائي بالتحتانية على أن الضمير لله {أجرها مرتين} أي بالنسبة إلى أجر غيرها من نساء بقية الناس {وأعتدنا} أي هيأنا بما لنا من العظمة وأحضرنا {لها} بسبب قناعتها مع النبي صلى الله عليه وسلم المريد للتخلي من الدنيا التي يبغضها الله مع ما في ذلك من توفير الحظ في الآخرة {رزقًا كريمًا} أي في الدنيا والآخرة، فلا شيء أكرم منه لأن ما في الدنيا منه يوفق لصرفه على وجه يكون فيه أعظم الثواب، ولا يخشى من أجله نوع عتاب فضلًا عن عقاب، وما في الآخرة منه لا يوصف ولا يحد، ولا نكد فيه بوجه أصلًا ولا كد.
ولما كان لكل حق حقيقة، ولكل قول صادق بيان، قال مؤذنًا بفضلهن: {يا نساء النبي} أي الذي أنتن من أعلم الناس بما بينه وبين الله من الإنباء بدقائق الأمور وخفايا الأسرار وما له من الزلفى لديه {لستن كأحد من النساء} قال البغوي: ولم يقل: كواحدة، لأن الأحد عام يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث- انتهى، فالمعنى كجماعات من جماعات النساء إذا تقصيت أمة النساء جماعة جماعة لم توجد فيهن جماعة تساويكن في الفضل لما خصكن الله به من قربة بقرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزول الوحي الذي بينه وبين الله في بيوتكن.
ولما كان المعنى: بل أنتن أعلى النساء، ذكر شرط ذلك فقال: {إن اتقيتن} أي جعلتن بينكن وبين غضب الله وغضب رسوله وقاية، ثم سبب عن هذا النفي قوله: {فلا تخضعن} أي إذا تكلمتن بحضرة أجنبي {بالقول} أي بأن يكون لينا عذبًا رخمًا، والخضوع التطامن والتواضع واللين والدعوة إلى السواء؛ ثم سبب عن الخضوع: قوله: {فيطمع} أي في الخيانة {الذي في قلبه مرض} أي فساد وريبة والتعبير بالطمع للدلالة على أن أمنيته لا سبب لها في الحقيقة، لأن اللين في كلام النساء خلق لهن لا تكلف فيه، فأريد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم التكلف للإتيان بضده.
ولما نهاهن عن الاسترسال مع سجية النساء في رخامة الصوت، أمرهن بضده فقال: {وقلن قولًا معروفًا} أي يعرف أنه بعيد عن محل الطمع.
ولما تقدم إليهن في القول وقدمه لعمومه، أتبعه الفعل فقال: {وقرن} أي اسكنّ وامكثن دائماَ {في بيوتكن} فمن كسر القاف وهم غير المدنيين وعاصم جعل الماضي قرر بفتح العين، ومن فتحه فهو عنده قرر بكسرها، وهما لغتان.
ولما أمرهن بالقرار، نهاهن عن ضده مبشعًا له، فقال: {ولا تبرجن} أي تظاهرن من البيوت بغير حاجة محوجة، فهو من وادي أمر النبي صلى الله عليه وسلم لهن بعد حجة الوداع بلزوم ظهور الحصر {تبرج الجاهلية الأولى} أي المتقدمة على الإسلام وعلى ما قبل الأمر بالحجاب، بالخروج من بيت والدخول في آخر، والأولى لا تقتضي أخرى كما ذكره البغوي، وعن ابن عباس- رضى الله عنهما- أنها ما بين نوح وإدريس عليهما السلام، تبرج فيها نساء السهول- وكن صباحًا وفي رجالهن دمامة- لرجال الجبال وكانوا صباحًا وفي نسائهن دمامة، فكثر الفساد، وعلى هذا فلها ثانية.
ولما أمرهن بلزوم البيوت للتخلية عن الشوائب، أرشدهن إلى التحلية بالرغائب، فقال: {وأقمن الصلاة} أي فرضًا ونفلًا، صلة لما بينكن وبين الخالق لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر {وآتين الزكاة} إحسانًا إلى الخلائق، وفي هذا بشارة بالفتوح وتوسيع الدنيا عليهن، فإن العيش وقت نزولها كان ضيقًا عن القوت فضلًا عن الزكاة.
ولما أمرهن بخصوص ما تقدم لأنهما أصل الطاعات البدنية والمالية، ومن اعتنى بهما حق الاعتناء جرتاه إلى ما وراءهما، عم وجمع في قوله: {وأطعن الله} أي ذاكرات ما له من صفات الكمال {ورسوله} في جميع ما يأمران به فإنه لم يرسل إلا للأمر والنهي تخليصًا للخلائق من أسر الهوى.
ولما كانت هذه الآيات قد نهت عن الرذائل فكانت عنها أشرف الفضائل قال مبينًا أن ذلك إنما هو لتشريف أهل النبي صلى الله عليه وسلم لتزيد الرغبة في ذلك مؤكدًا دفعًا لوهم من يتوهم أن ذلك لهوان أو غير ذلك من نقصان وحرمان: {إنما يريد الله} أي وهو ذو الجلال والجمال بما أمركم به ونهاكم عنه من الإعراض عن الزينة وما تبعها، والإقبال عليه، عزوفكم عن الدنيا وكل ما تكون سببًا له {ليذهب} أي لأجل أن يذهب {عنكم الرجس} أي الأمر الذي يلزمه دائمًا الاستقذار والاضطراب من مذام الأخلاق كلها {أهل} يا أهل {البيت} أي من كل من تكون من إلزام النبي صلى الله عليه وسلم من الرجال والنساء من الأزواج والإماء والأقارب، وكلما كان الإنسان منهم أقرب وبالنبي صلى الله عليه وسلم أخص وألزم، كان بالإرادة أحق وأجدر.
ولما استعار للمعصية الرجس، استعار للطاعة الطهر، ترغيبًا لأصحاب الطباع السليمة والعقول المستقيمة، في الطاعة، وتنفيرًا لهم عن المعصية فقال: {ويطهركم} أي يفعل في طهركم بالصيانة عن جميع القاذورات الحسية والمعنوية فعل المبالغ فيه، وزاد ذلك عظمًا بالمصدر فقال: {تطهيرًا}.
ولما ذكر ذلك إلى أن ختم بالتطهير، أتبعه التذكير بما أنعم سبحانه به مما أثره التطهير من التأهيل لمشاهدة ما يتكرر من تردد الملائكة بنزول الوحي الذي هو السبب في كل طهر ظاهر وباطن، فقال مخصصًا من السياق لأجلهن رضى الله عنه ن، منبهًا لهن على أن بيوتهن مهابط الوحي ومعادن الأسرار: {واذكرن} أي في أنفسكن ذكرًا دائمًا، واذكرنه لغيركن على جهة الوعظ والتعليم.
ولما كانت العناية بالمتلو، بينها بإسناد الفعل إليه لبيان أنه عمدة الجملة فقال بانيًا للمفعول: {ما يتلى} أي يتابع ويوالي ذكره والتخلق به، وأشار لهن إلى ما خصهن منه من الشرف فقال: {في بيوتكن} أي بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم الذي خيركن {من آيات الله} الذي لا أعظم منه.
ولما كان المراد بذلك القرآن، عطف عليه ما هو أعم منه، فقال مبينًا لشدة الاهتمام به بإدخاله في جملة المتلو اعتمادًا على أن العامل فيه معروف لأن التلاوة لا يقال في غير الكتاب: {والحكمة} أي ويبث وينشر من العلم المزين بالعمل والعمل المتقن بالعلم، ولا تنسين شيئًا من ذلك.
ولما كان السياق للإعراض عن الدنيا، وكانت الحكمة منفرة عنها، أشار بختام الآية إلى أنها مع كونها محصلة لفوز الأخرى جالبة لخير الدنيا، فقال مؤكدًا ردعًا لمن يشك في أن الرفعة يوصل إليها بضدها ونحو ذلك مما تضمنه الخبر من جليل العبر: {إن الله} أي والذي له جميع العظمة {كان} أي لم يزل {لطيفًا} أي يوصل إلى المقاصد بوسائل الأضداد {خبيرًا} أي يدق علمه عن إدراك الأفكار، فهو يجعل الإعراض عن الدنيا جالبًا لها على أجمل الطرائق وأكمل الخلائق وإن رغمت أنوف جميع الخلائق، ويعلم من يصلح لبيت النبي صلى الله عليه وسلم ومن لا يصلح، وما يصلح الناس دنيا ودينًا وما لا يصلحهم، والطرق الموصلة إلى كل ما قضاه وقدره وإن كانت على غير ما يألفه الناس «من انقطع إلى الله كفاه كل مؤنة ورزقه من حيث لا يحتسب» رواه الطبراني في الصغير وابن أبي الدنيا والبيهقي في الشعب عن عمران بن حصين رضى الله عنه «من توكل على الله كفاه، ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها» رواه صاحب الفردوس وأبو الشيخ ابن حيان في كتاب الثواب عن عمران رضى الله عنه أيضًا، ولقد صدق الله سبحانه وعده في لطفه وحقق بره في خبره بأن فتح على نبيه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك خيبر، فأفاض بها ما شاء من رزقه الواسع، ثم لما توفي نبيه صلى الله عليه وسلم ليحيمه من زهرة الحياة الدنيا فتح الفتوحات الكبار من بلاد فارس والروم ومصر وما بقي من اليمن، فعم الفتح جميع الأقطار: الشرق والغرب والجنوب والشمال، ومكن أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم من كنوز جميع تلك البلاد وذخائر أولئك الملوك حتى صار الصحابة رضوان الله عليهم يكيلون المال كيلًا، وزاد الأمر حتى دون عمر الدواوين وفرض للناس عامة أرزاقهم حتى للرضعاء، وكان أولًا لا يفرض للمولود حتى يفطم، فكانوا يستعجلون بالفطام فنادى مناديه: لا تعجلوا أولادكم بالفطام فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام، وفاوت بين الناس في العطاء بحسب القرب من النبي صلى الله عليه وسلم والبعد منه وبحسب السابقة في الإسلام والهجرة ونزّل الناس منازلهم بحيث أرضى جميع الناس حتى قدم عليه خالد بن عرفطة فسأله عما وراءه فقال: تركتهم يسألون الله لك أن يزيد في عمرك من أعمارهم، فقال عمر رضى الله عنه: إنما هو حقهم وأنا أسعد بأدائه إليهم، لو كان من مال الخطاب ما أعطيتموه، ولكن قد علمت أن فيه فضلًا، فلو أنه إذا خرج عطاء أحدهم ابتاع منه غنمًا، فجعلها بسوادكم، فإذا خرج عطاؤه ثانية ابتاع الرأس والرأسين فجعله فيها، فإن بقي أحد من ولده كان لهم شيء قد اعتقدوه، فإني لا أدري ما يكون بعدي، وإني لأعم بنصيحتي كل من طوقني الله أمره، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من مات غاشًا لرعيته لم يرح ريح الجنة»، فكان فرضه لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم اثني عشر ألفًا لكل واحدة وهي نحو ألف دينار في كل سنة، وأعطى عائشة رضى الله عنها خمسة وعشرين ألفًا لحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، فأبت أن تأخذ إلا ما يأخذه صواحباتها، وروى عن برزة بنت رافع قالت: لما خرج العطاء أرسل عمر رضى الله عنه إلى زينب بنت جحش رضى الله عنها بالذي لها فلما أدخل إليها قالت: غفر الله لعمر! غيري من أخواتي أقوى على قسم هذا مني، قالوا: هذا كله لك يا أم المؤمنين، قالت: سبحان الله! واستترت منه بثوب، ثم قالت: صبوه واطرحوا عليه ثوبًا، ثم قالت لي: ادخلي يديك واقبضي منه قبضة فاذهبي بها إلى بني فلان وبني فلان من ذوي رحمها وأيتام لها، فقسمته حتى بقيت منه بقية تحت الثوب، قالت برزة بنت رافع: فقلت: غفر الله له يا أم المؤمنين، والله لقد كان لنا في هذا المال حق، قالت: فلكم ما تحت الثوب، فوجدنا تحته خمسمائة وثمانين درهمًا، ثم رفعت يدها إلى السماء فقالت: اللهم لا يدركني عطاء لعمر بعد عامي هذا، فماتت- ذكر ذلك البلاذري في كتاب فتوح البلاد. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قوله تعالى: {وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالحا}.
بيان لزيادة ثوابهن، كما بين زيادة عقابهن {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} في مقابلة قوله تعالى: {يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ} مع لطيفة وهي أن عند إيتاء الأجر ذكر المؤتي وهو الله، وعند العذاب لم يصرح بالمعذب فقال: {يضاعف} إشارة إلى كمال الرحمة والكرم، كما أن الكريم الحي عند النفع يظهر نفسه وفعله، وعند الضر لا يذكر نفسه، وقوله تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} وصف رزق الآخرة بكونه كريمًا، مع أن الكريم لا يكون إلا وصفًا للرزاق إشارة إلى معنى لطيف، وهو أن الرزق في الدنيا مقدر على أيدي الناس، التاجر يسترزق من السوقة، والمعاملين والصناع من المستعملين، والملوك من الرعية والرعية منهم، فالرزق في الدنيا لا يأتي بنفسه، وإنما هو مسخر للغير يمسكه ويرسله إلى الأغيار.
وأما في الآخرة فلا يكون له مرسل وممسك في الظاهر فهو الذي يأتي بنفسه، فلأجل هذا لا يوصف في الدنيا بالكريم إلا الرزاق، وفي الآخرة يوصف بالكريم نفس الرزق.
ثم قال تعالى: {يا نساء النبى لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النساء}.
لما ذكر أن عذابهن ضعف عذاب غيرهن وأجرهن مثلًا أجر غيرهن صرن كالحرائر بالنسبة إلى الإماء، فقال: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ} ومعنى قول القائل ليس فلان كآحاد الناس، يعني ليس فيه مجرد كونه إنسانًا، بل وصف أخص موجود فيه، وهو كونه عالمًا أو عاملًا أو نسيبًا أو حسيبًا، فإن الوصف الأخص إذا وجد لا يبقى التعريف بالأعم، فإن من عرف رجلًا ولم يعرف منه غير كونه رجلًا يقول رأيت رجلًا فإن عرف علمه يقول رأيت زيدًا أو عمرًا، فكذلك قوله تعالى: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النساء} يعني فيكن غير ذلك أمر لا يوجد في غيركن وهو كونكن أمهات جميع المؤمنين وزوجات خير المرسلين، وكما أن محمدًا عليه السلام ليس كأحد من الرجال، كما قال عليه السلام: «لست كأحدكم» كذلك قرائبه اللاتي يشرفن به وبين الزوجين نوع من الكفاءة.
ثم قوله تعالى: {إِنِ اتقيتن فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول} يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون متعلقًا بما قبله على معنى لستن كأحد إن اتقيتن فإن الأكرم عند الله هو الأتقى وثانيهما: أن يكون متعلقًا بما بعده على معنى إن اتقيتن فلا تخضعن والله تعالى لما منعهن من الفاحشة وهي الفعل القبيح منعهن من مقدماتها وهي المحادثة مع الرجال والانقياد في الكلام للفاسق.
ثم قوله تعالى: {فَيَطْمَعَ الذي في قَلْبِهِ مَرَضٌ} أي فسق وقوله تعالى: {وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} أي ذكر الله، وما تحتجن إليه من الكلام والله تعالى لما قال: {فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول} ذكر بعده {وَقُلْنَ} إشارة إلى أن ذلك ليس أمرًا بالإيذاء والمنكر بل القول المعروف وعند الحاجة هو المأمور به لا غيره.
قوله تعالى: {وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ} من القرار وإسقاط أحد حرفي التضعيف كما قال تعالى: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة: 65] وقيل بأنه من الوقار كما يقال وعد يعد عد وقول: {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى} قيل معناه لا تتكسرن ولا تتغنجن، ويحتمل أن يكون المراد لا تظهرن زينتكن وقوله تعالى: {الجاهلية الأولى} فيه وجهان:
أحدهما: أن المراد من كان في زمن نوح والجاهلية الأخرى من كان بعده وثانيهما: أن هذه ليست أولى تقتضي أخرى بل معناه تبرج الجاهلية القديمة كقول القائل: أين الأكاسرة الجبابرة الأولى.
ثم قال تعالى: {وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله} يعني ليس التكليف في النهي فقط حتى يحصل بقوله تعالى: {لا تَخْضَعْنَ وَلاَ تَبَرَّجْنَ} بل فيه وفي الأوامر {فأقمن الصلاة} التي هي ترك التشبه بالجبار المتكبر {وآتين الزكاة} التي هي تشبه بالكريم الرحيم {وَأَطِعْنَ الله} أي ليس التكليف منحصرًا في المذكور بل كل ما أمر الله به فأتين به وكل ما نهى الله عنه فانتهين عنه.
ثم قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرًا}. يعني ليس المنتفع بتكليفكن هو الله ولا تنفعن الله فيما تأتين به.
وإنما نفعه لكُنَّ وأمره تعالى إياكن لمصلحتكن، وقوله تعالى: {لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهّرَكُمْ} فيه لطيفة وهي أن الرجس قد يزول عينًا ولا يطهر المحل فقوله تعالى: {لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس} أي يزيل عنكم الذنوب ويطهركم أي يلبسكم خلع الكرامة، ثم إن الله تعالى ترك خطاب المؤنثات وخاطب بخطاب المذكرين بقوله: {لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس} ليدخل فيه نساء أهل بيته ورجالهم، واختلفت الأقوال في أهل البيت، والأولى أن يقال هم أولاده وأزواجه والحسن والحسين منهم وعلي منهم لأنه كان من أهل بيته بسبب معاشرته ببنت النبي عليه السلام وملازمته للنبي.
ثم قال تعالى: {واذكرن مَا يتلى في بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءايات الله والحكمة} أي القرآن {والحكمة} أي كلمات النبي عليه السلام إشارة إلى ما ذكرنا من أن التكاليف غير منحصرة في الصلاة والزكاة، وما ذكر الله في هذه الآية فقال: {واذكرن مَا يتلى} ليعلمن الواجبات كلها فيأتين بها، والمحرمات بأسرها فينتهين عنها.
وقوله: {إِنَّ الله كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} إشارة إلى أنه خبير بالبواطن، لطيف فعلمه يصل إلى كل شيء ومنه اللطيف الذي يدخل في المسام الضيقة ويخرج من المسالك المسدودة. اهـ.